فإذا اختلفت الآراء في هذه القضايا، فهل تترك معلقة أو تحسم، هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أو لا بد من مرجح؟
· الكثرة العددية مرجح معتبر ودليل ذلك: أن منطق العقل والشرع والواقع
يقول: لا بد من مرجح, والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي
الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد.
· الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد: وفي الحديث: «إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد».
· النزول على رأي الكثرة في أحد: كما رأيناه - صلى الله عليه وسلم - ينزل
على رأي الكثرة في غزوة أحد، ويخرج للقاء المشركين خارج المدينة، وكان
رأيه ورأي كبار الصحابة البقاء فيها، والقتال من داخل الطرقات.
· الستة أصحاب الشورى: وأوضح من ذلك موقف عمر - رضي الله عنه - في قضية
الستة أصحاب الشورى، الذين رشحهم للخلافة وأن يختاروا بالأغلبية واحدا
منهم، وعلى الباقي أن يسمعوا ويطيعوا، فإن كانوا ثلاثة في مواجهة ثلاثة،
اختاروا مرجحا من خارجهم وهو عبد الله بن عمر، فإن لم يقبلوه، فالثلاثة
الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
· حديث "السواد الأعظم": وقد ثبت في الحديث التنويه "بالسواد الأعظم"
والأمر باتباعه، والسواد الأعظم يعني جمهور الناس وعامتهم والعدد الأكبر
منهم، حديث روي من طرق، بعضها قوي ويؤيده اعتداد العلماء برأي الجمهور في
الأمور الخلافية، واعتبار ذلك من أسباب ترجيحه، إذا لم يوجد مرجح يعارضه.
وقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي في بعض مؤلفاته إلى الترجيح بالكثرة، عندما تتساوى وجهتا النظر.
وقول من قال: إن الترجيح إنما يكون للصواب وإن لم يكن معه أحد، وأما الخطأ
فيرفض ولو كان معه (99 من المائة)، إنما يصدق في الأمور التي نص عليها
الشرع نصا ثابتا صريحا يقطع النزاع، ولايحتمل الخلاف، أو يقبل المعارضة،
وهذا قليل جدا, وهو الذي قيل فيه: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
أما القضايا الاجتهادية، مما لا نص فيه، أو مافيه نص يحتمل أكثر من تفسير،
أو يوجد له معارض مثله أو أقوى منه، فلا مناص من اللجوء إلى مرجح يحسم به
الخلاف، والتصويت وسيلة لذلك عرفها البشر، وارتضاها العقلاء، ومنهم
المسلمون، ولم يوجد في الشرع ما يمنع منها، بل وجد في النصوص السوابق ما
يؤيدها.
· الاستبداد السياسي المسبب الأول لما أصاب الأمة قديما وحديثا:
إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى،
وتحول "الخلافة الراشدة" إلى "ملك عضوض", سماه بعض الصحابة "كسروية" أو
"قيصرية", أي أن عدوى الاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلى المسلمين من
الممالك التي أورثهم الله إياها، وكان عليهم أن يتخذوا منهم عبرة، وأن
يجتنبوا من المعاصي والرذائل ما كان سببا في زوال دولتهم، ولكنهم - وأسفاه -
نقلوا أسوأ ما في حياتهم السياسية - وهو الاستبداد والعلو في الأرض - إلى
دولتهم التي يجب أن يقودها الذين لايريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
وما أصيب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جراء الحكم
الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه، وما عطلت الشريعة، ولا
فرضت العلمانية، وألزم الناس بالتغريب، إلا بالقهر والجبروت، واستخدام
الحديد والنار، ولم تضرب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولم ينكل
بدعاتها وأبنائها، ويشرد بهم كل مشرد، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي
السافر حينا، والمقنع أحيانا بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة، الذي
تأمره القوى المعادية للإسلام جهرا، أو توجهه من وراء ستار([12]).
وأما عن مرتكزات الديمقراطية وغاياتها؛ فتعتمد الديمقراطية على أساسين:
· تحقيق معنى الديمقراطية السياسية (حكومة الشعب)، والديمقراطية الاجتماعية (الحكومة للشعب).
· توفير الحقوق والحريات، وهي هدف كل حكم ديمقراطي وغايته.
ولم يتحمس الناس لنظام الشورى إلا لأنها أفضل وسيلة لكفالة الحكم الصالح
لحقوق الناس وحرياتهم، وتسمى الحقوق الفردية أو المدنية أو الحقوق العامة.
والحقوق العامة السياسية ترجع في الفقه الغربي إلى دعامتين أساسيتين: وهما المساواة والحرية, ومظاهر المساواة أو أنواعها أربعة:
1. مساواة أمام القانون: أي إن الناس جميعا سواء في تطبيق القانون، لا يتميز أحد عن أحد.
2. مساواة أمام القضاء: أي ألا يتميز أشخاص على غيرهم من حيث القضاء أو المحاكم أو العقوبة.
3. مساواة في التوظيف: أي ألا تميز فئة من المواطنين على غيرها في تقلد
الوظائف العامة، إذا توافرت شروط التوظيف، ومنها المؤهلات المطلوبة الخاصة.
4. مساواة في التكاليف العامة: من ضرائب ورسوم وخدمة عسكرية.
وأنواع الحرية هي في الغالب:
1. حرية شخصية: وهي قدرة الشخص على ممارسة أي عمل لايضر بالآخرين.
2. وحق التملك: وهو الاعتراف بحق الملكية الفردية لكل إنسان.
3. وحرية المسكن: وهي أن يكون لكل فرد حق الانتفاع في سكنه دون إزعاج أو إقلاق من أحد.
4. وحرية العمل: وهي حرية ممارسة أنواع النشاط التجاري والصناعي والزراعي والمهن الحرة.
5. وحرية العقيدة والعبادة: إما في القلب ولا سلطان لأحد غير الله - عز
وجل - فيها، وإما في ممارسة الشعائر الظاهرة وأداء المناسك دون تقيد أو
منع.
6. وحرية الرأي والتعبير والاجتماع: وهي قدرة الإنسان على التعبير عن وجهة
نظره بمختلف وسائل التعبير والنشر، وعقد الاجتماعات السلمية من أجل ذلك.
7. وتكوين الجمعيات: أي الحق في إحداث جميعات ذات أنشطة متنوعة؛ ثقافية أو خيرية أو اقتصادية وغيرها.
8. وحق التعليم وحرية التعليم: وهي تمكين الإنسان من أن يأخذ العلم عمن يشاء، ويعلم من يشاء.
9. وحق التظلم أو تقديم العرائض (الاستدعاءات): وهو حق الإنسان في أن
يتقدم بشكواه أو مطالبه أو ملاحظاته إلى السلطات العامة، إما لدفع ضرر، أو
للمساس بحقوقه وحرياته، إذا كان القصد من استعمال هذا الحق تحقيق مصلحة
عامة، أو توجيه السلطات وجهة معينة في الحكم أو الإدارة، وهذا مظهر
للمساهمة في الشئون العامة، ويدخل ضمن الحقوق السياسية.
وهذه الحقوق والحريات، سواء في المساواة بأنواعها أو في ممارسة الحريات
وتقريرها: سبق النظام الإسلامي إلى تقريرها والإلزام باحترامها وكفالتها،
دون تمييز بسبب الجنس، أو اللون، أو العرق، أو الدين والمذهب، أو اللغة، أو
الأصل والانتماء، بل إن الإسلام بهذا السبق كان في الحقيقة هو مصدر
الإلهام بهذه الحقوق والحريات، وهو أول من أيقظ الضمير الإنساني إلى ضرورة
رعايتها واحترامها، وإن كان الإحساس بالظلم والتمييز الطبقي هو المفجر
للحركات الثورية.
وأدلة مراعاة هذه الحقوق والحريات تعتمد على صريح نصوص الشريعة في القرآن
والسنة، ومواقف الخلفاء الراشدين وكلماتهم الرائعة في هذا المجال، وكل ذلك
معروف.
فالإسلام إطار واضح يمكن تطبيقه في كل عصر، تمكن المسلمون الأوائل من
تطبيقه في العصور الأولى للإسلام مع بساطة المجتمعات وقلة وظائف الدولة،
وتمكن المسلمون من تطبيقه مع تعقد المجتمعات وزيادة وظائف الدولة.
وكفل الإسلام حقوق المسلم السياسية وكان من أشهرها:
· اختيار الحاكم والرضا به، وهو ما كان يعبر عنه في التراث الفقهي بـ "البيعة".
· المشاركة العامة في القضايا التي تخص عامة الأمة، وهو مبدأ الشورى الذي حث عليه الإسلام.
· تولي المناصب السياسية في الحكومة أو مؤسسات الدولة.
· نصح الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
· وتختلف الأنظمة في ترتيب الحقوق السياسية وكيفية تطبيقها، والذي يعنى
الإسلام به هو تحقيق المعنى وترك النظام والتطبيق لما يوافق كل عصر.
أما بخصوص الديمقراطية، فلا يتصور أن تكون الديمقراطية التي كافحت من أجلها
الشعوب في الغرب، وصارعت صراعا مريرا لتتخلص من الطغاة والمستبدين، أن
تكون منكرا أو كفرا؛ فإن جوهر الديمقراطية من صميم الإسلام.
فالإسلام يتفق مع مبدأ اختيار الحاكم، وأكبر دليل على ذلك أن الإسلام ينكر
أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، فما بالنا بالحياة السياسية إذن،
والبشرية أوجدت للديمقراطية صيغا وأشكالا مثل الانتخاب والاستفتاء وترجيح
حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء،
وحق الأقلية في المعارضة... إلخ؟ وكل هذه الأشكال ابتكرها الغرب وسبقنا
فيها.
وكان من الأجدر بنا كمسلمين أن نكون نحن السباقين؛ إذ إن الإسلام سبق
الديمقراطية بألف سنة بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهر الديمقراطية.
والدين الإسلامي لا يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي من غير المسلمين.
فقد اقتبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكرة الخندق من الفرس، كما أنه
جعل أسرى بدر المشركين يعلمون المسلمين القراءة والكتابة, وكذلك اقتبس -
صلى الله عليه وسلم - ختم كتبه من الملوك. واقتبس عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - نظام الدواوين ونظام الخراج, وعلينا أن نعلم في النهاية أن: الحكمة
ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
أما الجانب السياسي فهو مجرد وسيلة بأن تكون الحكومة من الشعب، وقد حقق
النظام الإسلامي مدلول الجانب الاجتماعي للديمقراطية بما لا يعرف له مثيل
في التاريخ، ولم يسبقه في ذلك نظام، فاستطاع هذا النظام على مدى مئة عام من
ظهوره في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - إغناء الناس جميعا،
وتوفير الرخاء والهناءة والسعادة وراحة العيش لهم، عن طريق منهاجه في
التكافل الاجتماعي بفريضة الزكاة والتعاون الفعال بين فئات المجتمع بغير
الزكاة أيضا من نذور وصدقات وكفارات وتضحيات نادرة المثال، وقام الأغنياء
بسد حاجات الفقراء، وبرز التضامن في تحمل المسئوليات الاجتماعية بين الفرد
والدولة، وقامت الدولة المسلمة برعاية أهل الحاجة والعوز، وعلاج مشكلات
المرض والشيخوخة والبطالة وغير ذلك.
وكان الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو القمة في الشعور
بالمسئولية المرهفة عن جميع رعيته مسئولية شاملة، فيعول الأرامل، ويرعى
المسنين، ويتعاطف مع الأسرة في البيوت وكلمته المشهورة في هذا الصدد معروفة
لدى القاصي والداني وهي: "والله، لو عثر بعير بشط الفرات لخشيت أن يسألني
الله عنه, ألا تدرون أني مسئول عن إصلاح الطريق؟!
ومن الملاحظ أن أكبر ضمان للحكم الصالح في الديمقراطية الإسلامية بنوعيها، كان هو الوازع الديني، واعتبار هذا الصلاح في الحكم عبادة.
أما الديمقراطية الغربية أو الشرقية الحديثة فلا سند لها من الوازع الديني
لانفصال الدولة عن الدين؛ لذا وضعت ضمانات كثيرة في صور الديمقراطية
الثلاث؛ وهي البرلمانية والرئاسية والمجلسية لاحترام النظام، سواء في
الدساتير أو في القوانين المختلفة لمراقبة الحكام ومساءلتهم.
وحينئذ تعد الديمقراطية الإسلامية في طابعها الاجتماعي أبعد مدى في حياة
الجماعة الإسلامية منها في الديمقراطيات الحديثة، كما أنها كانت أكثر
تحقيقا لأهداف الديمقراطية السياسية وبعدها عن شكليات الديمقراطية الحديثة،
حتى إن وجدت مخالفات أو انحرافات لدى بعض الحكام عن منهجها.
ثانيا. الديمقراطية الإسلامية أشمل من الديمقراطية البشرية:
الديمقراطية في الإسلام غير خاضعة للرغبات البشرية "فليس الوالي الحاكم
صاحب الحق في السيادة، وإنما السيادة للشريعة، وللأمة وحدها فيما لايتصادم
مع نصوص الشريعة وأحكامها التشريعية، المراعي فيها مصلحة الأمة العليا
والمجتمع، والحقيقة، أو الفطرة الإنسانية، والوالي أو الخليفة نائب أو وكيل
عن الأمة، ولها عزله إن توافرت مسوغات العزل، واختلت ضوابط اختصاصاته
ومؤهلاته".
ومن هنا، لايلزم من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم
الله؛ إذ لاتناقض بينهما، فالديمقراطية المبتغاة للبلاد الإسلامية تعد شكلا
للحكم يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى،
والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور. بمعنى آخر،
عندما يطالب المسلمون بالديمقراطية، فهم يطالبون بوسيلة تساعدهم على تحقيق
أهداف حياة كريمة يستطيعون من خلالها الدعوة إلى الله - عز وجل - ولن يضرهم
أبدا أن يستخدموا لفظا غربيا - كالديمقراطية - فإن مدار الحكم ليس على
الأسماء، بل على المسميات والمضامين.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإننا لا نستطيع أبدا اعتبار الشورى نسخة من
الديمقراطية، فالمسلم لايأخذ كل ما في الديمقراطية الغربية وينفذه بغير عقل
ووعي، وإنما عليه أن يقر ما في أفكار الآخرين من صواب ويبتعد عن الخطأ،
فهو لا يقلد، وإنما يستفيد من تجارب الآخرين من خلال الميزان الذي وهبه
الله وهو ميزان الشرع.
وحتى دعاة الديمقراطية الغربية يتفقون معنا أن الفكر الإنساني ليس معصوما،
وإنما يخضع للإضافة والتغيير والانتقاء، كذلك الديمقراطية بمفهومها الغربي
تحتاج إلى تعديل إذا ما أردنا جعلها ديمقراطية إسلامية عربية، وهذا لتناسب
ثقافات وعادات الشعوب التي ستطبق عليهم، وتحفظ لهم الأمن والاستقرار.
والديمقراطية التي يقرها الإسلام ويدعو إليها، ديمقراطية لا تجعل ثوابت
الأمة من عقائد وأعراف محلا للإلغاء والنقاش، فكما أن الديمقراطية الغربية
تجعل الحفاظ على العلمانية وتكريم السامية خطوطا حمراء لا يجوز للديمقراطية
تخطيها، كذلك يرى المسلمون أن العقائد الإسلامية والثوابت الدينية
والعرفية للمجتمع المسلم خطوطا حمراء، وإطارا للعمل الديمقراطي.
فالديمقراطية إذا كانت لا تتعدى على حقوق الشعوب في المحافظة على هويتهم،
وعقيدتهم، وشخصيتهم، ولا تجعل ثوابت الأمة محلا للتبديل والتغيير، فهي
الديمقراطية التي تخدم الإسلام وتحقق أهدافه، وإذا كانت ديمقراطية مفروضة
من الخارج للهيمنة على الشعوب والأنظمة، فهي مظهر جديد من مظاهر الاحتلال
البغيض، نسأل الله السلامة لنا ولأوطاننا.
وعن نظام الشورى في الإسلام والأنظمة الديمقراطية الحديثة يحدثنا د. وهبة
الزحيلي فيقول: تعتمد الديمقراطية الحديثة على أسلوب الشورى، فهي الوسيلة
المفضلة لحماية الحقوق وتقرير الواجبات، وإشاعة الأمن والسلام، وتحقيق
الوفاق ومنع الخلاف، وتمارس الشورى من خلال جميع صور الديمقراطية:
البرلمانية (مجالس الأمة أو الشعب)، والرئاسية، والمجلسية، ولكل منها
وسائلها الخاصة في هذا الشأن، وتعطي المجالس النيابية صفة التشريع، وتمثل
السلطة التشريعية إحدى سلطات الدولة الثلاث مع التنفيذية والقضائية.
ويتفق نظام الشورى في الإسلام مع الأنظمة الديمقراطية، فهو أحد قواعد الحكم
الإسلامي وخصائصه الكبرى، ومرتكز قيادة المسلمين في تدبير وتسيير الشئون
العامة، قال ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه
المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح».
لكن أسلوب الشورى في الديمقراطية الحديثة أعم وأشمل، فيختلف نطاقه أو مجاله
في الإسلام، عما هو موجود في الديمقراطية الحديثة؛ لأنه فيها - أي في
الديمقراطية الحديثة - يعتمد على العقل المحض والآراء الشخصية والمصالح
الذاتية والأهواء الخاصة، فتكون سلطة التشريع مطلقة غير مقيدة للمجالس
المنتخبة أو المعينة، سواء في مجالس النواب أو مجالس الشيوخ.
أما في الإسلام فتتفق الشورى مع الديمقراطية في وضع الأنظمة التنفيذية،
وكذلك في وضع القوانين الجديدة التي تقتضيها المصلحة العامة، مثل قانون
السير، والموظفين، والتأمينات المعاشية أو التقاعدية، والصحة، وشئون
السياسة والمعاملات والاقتصاد، وكل ما يقتضيه التطور، والتدابير الإجرائية
أو الموضوعية لحل المشكلات الطارئة، والأعراف الجديدة.
لكن ليس للشورى مجال فيما يصادم النصوص الشرعية القطعية أو الظنية الواضحة
المراد، والمبينة في السنة والعمل؛ لأن التشريع أو الحكم في هذا لله عز
وجل، وهذا ما يسمى بالأحكام أو الأمور المعلومة من الدين بالضرورة أو
بالبداهة، كأحكام العبادات والعقوبات المقدرة، والكفارات، والمحرمات أو
المحظورات من الشرك بالله، والزنا والسرقة، وشرب الخمور، وتناول المخدرات،
والغصوب، وجرائم القتل والسلب والنهب، وأكل أموال الناس بالباطل، والمصادرة
بغير حق، وأحكام الأسرة من زواج وطلاق وعدة ونفقة وتربية أولاد على منهج
الإسلام ونظامه وآدابه، واحترام قواعد الإسلام وآدابه وأخلاقه، كالتراضي في
العقود، والمسئولية الفردية أو الشخصية لقوله عز وجل: )ولا تزر وازرة وزر
أخرى( (الأنعام: ١٦٤).
وكون الأصل في الإنسان البراءة، فكل إنسان بريء حتى تثبت إدانته، وسريان
الإقرار على المقر نفسه، دون غيره، وضمانات الإتلاف، ومنع الضرر والضرار
(مقابلة الضرر بالضرر)، ونحو ذلك؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص، وهذه قاعدة
شرعية وقانونية أيضا.
أوجه الشبه والاختلاف بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية المعاصرة:
فكما أن هناك أوجه شبه بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية المعاصرة، كذلك هناك أوجه اختلاف، وربما تكون أوجه الخلاف هي الغالبة.
فأما أوجه الشبه أو التماثل: فهي تتضح فيما تتميز به الديمقراطية الحديثة من صفات أو خصائص إيجابية نافعة وهي ما يأتي:
1. يتشابه النوعان في نظام الحكم، بالمعنى الذي عرف به (لنكولن)،
الديمقراطية، وهو " حكم الشعب بواسطة الشعب من أجل الشعب " فإن نظام الحكم
في الإسلام يعتمد أساسا على حرية الاختيار أو الانتخاب أو البيعة.
2. ويتماثلان في القيام على مبادئ معينة سياسية واجتماعية، تتعلق بإرساء
معالم الحقوق والواجبات الأساسية، مثل حق المساواة أمام القانون أو النظام،
وبقية أنواع هذا الحق كما تقدم، ومثل حق الحرية، ولا سيما حرية الفكر
والاعتقاد، ورعاية العدالة الاجتماعية، وحقوق الحياة والعمل، وبقية أنواع
الحريات؛ فكل تلك المبادئ والحقوق مصونة في الإسلام، والغاية من
الديمقراطية الحديثة وهي إرساء معالم الأمن والسلام والإخاء هي غاية
الديمقراطية الإسلامية.
3. وهما بنحو ظاهر يراعيان مبدأ الفصل بين السلطات، فالتشريع في الإسلام
يصدر عن القرآن والسنة أو إجماع الأمة أو إرادة الأمة العامة أو الاجتهاد،
وكل ذلك مستقل عن الإمام، بل هو ملزم به ومقيد بنتائجه، ومن الناحية
العملية يعبر الإجماع عن الإرادة العامة للأمة بتعبير روسو وأمثاله، فهي في
رأيهم إرادة معصومة، وكذلك حجية الإجماع قطعية؛ لأنه يعبر عن عصمة الأمة.
4. يعارض كلا النظامين سياسة الاستبداد والانفراد بالرأي، ويعتمدان على القاعدة الشعبية في الحكم والإرادة وسياسة البلاد.
5. تصدر القوانين النظامية في كلا النظامين بموافقة الأمة، سواء سميت بالمجالس النيابية أو بمجالس الشورى.
6. تعتمد الديمقراطية الحديثة على مبدأ الأغلبية في اتخاذ قراراتها، وكذلك
الديمقراطية الإسلامية، إما أن تأخذ بالإجماع الحاصل، أو برأي الأكثرية
فيما لا نص فيه، ولا مانع في كلا النظامين من وجود أقلية لها حق المعارضة
والمصارحة برأيها.
7. المجالس النيابية تقوم على مبدأ تمثيل الأمة بنواب عنها، يختارونهم
بالانتخاب الحر المباشر، وأهل الشورى إما أن تزكيهم الأمة بحكم التردد
عليهم وقبول فتاويهم وآرائهم، وإما أن يختار بعضهم الإمام الحاكم، مراعيا
ضوابط الشريعة في حسن الاختيار، وتوافر ملكة الاجتهاد, وجميع الأمة في
النظام الإسلامي لها الحق في النهاية ببيعة الخليفة أو معارضة ما يراه أهل
الشورى.
ويشترك كل من المرأة وغير المسلمين المقيمين في ديار الإسلام في القضايا
العامة التي تحتاج لمشاورة في الحدود المسموح بها شرعا لإجراء الشورى أو
تداول الآراء.
وعلى الرغم من هذا التشابه بين النظامين، يتطلب النظام الإسلامي الالتزام
بالقيم الدينية والأخلاقية في الإمام الحاكم وفي أهل الشورى على حد سواء.
وأما أوجه الخلاف أو الفوارق فهي كثيرة، حتى إن بعض
المتشددين قالوا: الديمقراطية كفر، وليس الإسلام دين الديمقراطية، ناظرين
إلى منطلقات الديمقراطية الحديثة ومبادئها المادية والنفعية، وهذه الفوارق
هي ما يأتي:
1. المراد بكلمة " الشعب " أو " الأمة " في الديمقراطية الغربية أو
الشرقية: هو الشعب المحصور في حدود إقليمية معينة، ويعيش في أرض إقليم
واحد، وتجمع بين أفراده روابط طارئة أو صناعية هي رابطة الدم والجنس واللغة
والعادات المشتركة، أي إن الغالب في الديمقراطية المعاصرة اقترانها بفكرة
القومية أو العنصرية، ويستتبع ذلك ظهور العصبية.
أما الأمة في الإسلام فهي أعم وأشمل، فهي تشمل جميع أبناء الأمة الإسلامية
في المشارق والمغارب، دون قصر على حدود دولة معينة، ولا تربط بينها تلك
الروابط الضيقة، وإنما الرابطة في العقيدة: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا
بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات)، فكل من أسلم هو
مواطن في الدولة الإسلامية، وكذلك كل شخص غير مسلم رضي بالإقامة في دار
الإسلام فهو من شعب الدولة.
والشعب في الإسلام غير منغلق في مكان معين محدود، وإنما يمتد وجوده في كل
بقاع الدنيا، لا يحمل غير الانتماء لعقيدة واحدة، مما يبعد النظرة القومية
أو العنصرية عنه، ويجعله منفتحا مصطبغا بالصبغة الإنسانية أو العالمية.
2. هدف الديمقراطية الغربية تحقيق أغراض مادية أو دنيوية، بقصد إسعاد شعب
بعينه، عن طريق توفير فرص متنوعة للدخل، حربية كانت أو صناعية أواقتصادية.
أما الديمقراطية الإسلامية فلها غرضان أساسيان: وهما تحقيق مصالح الناس
الدينية الأخروية والدنيوية، ويترتب عليه أن الشورى في الإسلام مرتبطة بقيم
دينية وأخلاقية نابعة من الدين نفسه، فهي ثابتة غير متقلبة ولا متأثرة
بالأهواء والشهوات الخاصة.
أما الديمقراطية المعاصرة: فلا ثبات فيها في القيم، وإنما هي نسبية توجهها رغبات الأكثرية.
ويترتب على ذلك احتمال وجود تسلط شعوب الديمقراطية الغربية أو المعاصرة ولو
كانت شعبية شرقية على بعضها، بينما تحتفظ الديمقراطية الإسلامية بنظرتها
الإنسانية غير المغلقة، وتحترم حقوق الإنسان وكرامته بالفعل، على عكس ما
نراه لدى الشرق والغرب من شعارات زائفة فقط للديمقراطية، بل إن الديمقراطية
بنوعيها الشرقي والغربي في محنة أو أزمة، مما أوجد تصادما بين الديمقراطية
المحلية والديمقراطية العالمية.
3. الحقوق والحريات العامة في الشورى الإسلامية والديمقراطية الإسلامية تختلف عن الديمقراطيات المعاصرة من ناحيتين:
· إن هذه الحقوق والحريات في الإسلام ذات وظيفة اجتماعية، ترتبط بتحقيق
مقاصد الشريعة، وإيجاد التوازن بين مصلحتي الفرد والجماعة، أما الديمقراطية
المعاصرة فتغلب الجانب الفردي أو المصلحي الخاص على الجانب الاجتماعي، أو
تحرص في الشرق على طحن مصلحة الفرد بمصلحة الدولة التي تدعي رعاية المصلحة
العامة.
· تتقيد الحقوق والحريات في الإسلام بضوابط الشريعة، أما في الديمقراطية
المعاصرة فهي حقوق مطلقة، لايقيدها سوى عدم الإضرار بالغير، والقانون
القابل للتغير.
4. إن سلطة الأمة أو المجالس النيابية النائبة عنها في الديمقراطية المعاصرة مطلقة:
الأمة مصدر السلطات,فهي صاحبة السيادة، وقراراتها واجبة النفاذ والطاعة،
حتى إن خالفت الأخلاق والمصالح الإنسانية، فيمكن للأنظمة الديمقراطية إعلان
الحرب على شعب دولة أخرى، لدوافع عنصرية أو اقتصادية أو استعمارية أو
احتكارية.
أما سلطة الأمة أو مجالس الشورى في الإسلام: فهي ليست مطلقة، وإنما هي
مقيدة بشريعة الله - عز وجل - ودينه وأصوله وقواعده العامة، فلا تخرج عن
إطار الشريعة وأحكامها، وتتقيد بالنظام الأخلاقي ومبادئه، وتكون الأمة
محكومة بهذين الأمرين: الشريعة والأخلاق.
فالدولة الإسلامية حكومة قانون إلهي، ولا تملك مجالس الشورى مخالفة نص قطعي
أو واضح الدلالة، وإنما تتحرك فيما لا نص فيه أو فيما فيه نص ظني الدلالة
أو غامض، أو في إطار التنفيذ (إصدار القوانين التنظيمية والقرارات
واللوائح)، مثل قوانين تنظيم النقابات والتأمينات الاجتماعية وحقوق العمال،
ونظام السير وتقرير العقوبات المناسبة للجرائم غير المنصوص عليها.
وإذا كان الدستور يقيد الأمة في الديمقراطية المعاصرة، فإن الدساتير في
أغلبها عنصرية غير إنسانية، وقابلة للتغير، بينما الدستور الإسلامي بقيمه
وأصوله وغاياته ومنطلقاته ثابت، وذو مصدر إلهي غير بشري ولا وضعي، أو عرضة
للتغير والتبدل، ومرونة الإسلام محصورة في الأحكام المصلحية أو القياسية أو
العرفية غير المنظمة في النصوص الشرعية.
وبالجملة: إن السيادة في الديمقراطية المعاصرة هي للأمة على الإطلاق، وفي الإسلام هي للشريعة والأمة معا.
لقد بدأ المستشرقون بإشاعة أن الإسلام عدو الديمقراطية، وحذا حذوهم ساسة
الغرب، وبعض ساسة الشرق وزعمائهم ومفكريه؛ فعقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية
في الجزائر والتفاف الشعب حولها، كادت تمسك بزمام الحكم في البلاد، عقب
هذه الظاهرة هبت عاصفة هوجاء شنها أصحاب الأقلام الجاهلة، وأساطين الفكر
العميل، وقالوا - في غير حياء ولا خجل -: إن الذي يجري في الجزائر خطر على
الديمقراطية، وحرب شعواء على الحضارة وعود إلى عصور التخلف والاستبداد!
وقد تبين مما سبق عرضه وتفصيله زيف هذه الدعوى الباطلة، بل الدليل والواقع
والتاريخ شهود على عكسها؛ وعليه فلا نجد مسوغا لأي ادعاء على الإسلام أنه
عدو للديمقراطية، فالإسلام منبع الديمقراطية,وإن كان المسلمون لايطبقون ما
جاء فيه من تعاليم، فالعيب فيمن لا يطبقونه كما هو، وليس العيب في الإسلام
نفسه.
الخلاصة:
· لقد نشأت الديمقراطية في كنف الإسلام,وظهرت بعد أن لم تكن؛ فالإسلام
قائم بقواعد ديمقراطية,من اختيار الحاكم,والرد عليه إن أخطأ,وعزله إن جار
ومحاكمته,ومن اتخاذ الشورى كمبدأ,ومن إعطاء الضعيف حقه من القوي,وإعطاء
المسلم حقه من المسلم,ومن المحافظة على حقوق الإنسان.
· وهذا يتفق مع جوهر الديموقراطية؛ إذ إن جوهرها أن يختار الناس من
يحكمهم ويسوس أمرهم,وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه,أو نظام
يكرهونه,وألايساقوا إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية
أو سياسية لا يعرفونها,وهذا من صميم الإسلام.
· ومن الأدلة المؤكدة أن جوهر الديموقراطية يتفق مع مباديء الإسلام:
o حملة القرآن على الحكام المتألهين في الأرض.
o ربط القرآن بين الطغيان والفساد.
o ذم القرآن للشعوب المطيعة للجبابرة.
o حملة السنة النبوية على الأمراء الظلمة.
· إن مبدأ الحكم للشعب - الذي هو أساس الديمقراطية - ليس مضادا لمبدأ
الحكم لله - الذي هو أساس التشريع الإسلامي ـ, إنما هو مضاد لمبدأ الحكم
للفرد,الذي هو أساس الدكتاتورية.
· الديمقراطية الإسلامية أشمل وأكمل من الديمقراطية البشرية من ناحية
الشورى ومبدأ اختيار الحاكم؛ فنظام الشورى في الإسلام يتفق مع الأنظمة
الديمقراطية,فهو أحد قواعد الحكم الإسلامي وخصائصه الكبري,ومرتكز قيادة
المسلمين في تدبير وتسيير الشئون العامة.
· أما بالنسبة لمبدأ اختيار الحاكم,فليس الحاكم صاحب الحق في السيادة
وإنما السيادة للشريعة والأمة وحدها فيما لا يتصادم مع نصوص الشريعة
وأحكامها التشريعية,وللأمة عزله إن توفرت مسوغات العزل,واختلت ضوابط
اختصاصاته ومؤهلاته.