المؤمنون قد أظلكم شهر كريم وموسم عظيم فها هو يطرق الأبواب هلاله يرتقب
الليلة أو القابلة فلا إله إلا الله ما أسرع تعاقب الليالي والأيام وما
أعجل دوران رحى الزمان فالليالي والأيام تطوى والأعمار والأعوام تفنى ويبقى
وجه ربك ذو الجلال والإكرام لكل أجل كتاب ? فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فهذا مولود يبكي وهذا مقبور
يُبكى وكل الناس يغدو فبائع نفسه إلى ربه ومولاه فمعتقها وبائع نفسه
للشيطان وهواه فمهلكها.
أيها المؤمنون إن خير ما استقبلتم به شهر رمضان المبارك التوبة الصادقة
والدموع الهامية على التفريط والتقصير {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}فإن من لم يتب فأولئك هم
الظالمون. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إني لأتوب
إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) عباد الله: إن التوبة الصادقة المقبولة
لا تكون إلا بالندم على ما فرط في جنب الله، وعلى ما اقترف العبد من
السيئات والإقلاع فوراً عن الخطايا والموبقات، والعزم على عدم مواقعة
الذنوب والمهلكات ورد المظالم والتحلل من أصحاب الحقوق والجنايات.
وينبغي للمسلم أن يستقبل هذا الموسم الكريم بالفرح ببلوغه وإدراكه فإن من
النعم العظيمة على العبد أن يبلغه الله مواسم الخيرات ومنازل المغفرة
والرحمات {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }

أيها المؤمنون: إن المؤمن يفرح برمضان لما فيه من أسباب الفوز بالجنات
والنجاة من النيران يفرح المؤمن برمضان يصوم نهاره ويقوم ليله ويسأل ربه
ومولاه من خير الدنيا والآخرة فيحقق بذلك التقوى التي قال الله في أهلها:
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}
يفرح المؤمن برمضان لأنه شهر يربي فيه نفسه على الصبر عن الشهوات والصبر
على الطاعات فيفيده ذلك قوة في دينه ورسوخاً في يقينه وزيادة في إيمانه فما
أعطي أحد عطاء خيراً ولا أوسع من الصبر.
يفرح المؤمن برمضان لأنه يتذكر به ما صنع الله لأوليائه من الانتصارات
والفتوح فشهر رمضان شهر نصر لأمة الإسلام فيه وقـعت بدر الكبرى وفيه فتح
الله لنبيه مكة البلد الحرام وفيه معركة اليرموك وحطين،وغير ذلك من وقائع
النصر والفتح المبين. فكل انتصارات أهل الإسلام العظام التي حصل بها
للمسلمين الفرج وغيرت موازين القوى إنما كانت في هذا الشهر المبارك فصدق
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائل: ((واعلم أن النصر مع الصبر وأن
الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً))(2) يفرح المؤمن بهذا الشهر لأنه يجدد
في نفسه الأمل فإن المستقبل للإسلام مهما اشتد الظلام وإن الله ناصر دينه
ومعلي كلمته بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به أهل الإسلام وذلاً يذل
به الكفار، فما أحوج الأمة اليوم وهي تعيش هذه النكبات والخطوب المدلهمات،
إلى من يحيي في قلبها الأمل ويذكرها بأسباب الخروج من هذه الأزمات فإنه من
يتق الله يجعل له مخرجاً ويجعل له من أمره يسراً{ .قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
أيها المؤمنون: إن من الناس من عمي عن كل هذه المعاني التي يحملها هذا
الشهر المبارك ولم ير فيه إلا موسماً سنوياً للموائد الزاخرة وفرصة للسمر
واللهو ومتابعة البرامج والسهر الممتد إلى بزوغ الفجر ،والنوم الطويل إلى
غروب الشمس فإني والله أخشى على هذا أن يجيب الله فيه دعاء جبريل الذي أمن
عليه خاتم المرسلين ففي صحيح ابن خزيمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((أتاني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده
الله. قال جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: قل آمين. فقال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: آمين)) أيها المؤمنون: إنني أحذركم أن تستجيبوا إلى
شياطين الإنس الذين يدعونكم إلى متابعة القنوات بما أعدوه من البرامج
والفقرات ليصدوا عن سبيل الله ويذهبوا بما حصّلته قلوبكم من التقوى
والإيمان بسبب الصيام والقيام فاتقوا الله عباد الله واجعلوا شهركم شهر
توبة وأوبة وصلاح ودعاء وتضرع وبكاء فعند الصباح يحمد القوم السُرى جعلنا
الله وإياكم ممن يقول يوم القيامة{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي
أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ
السَّمُومِ. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ
الرَّحِيمُ} اتقوا الله عباد الله واستقبلوا شهركم بالعزم على الطاعات ونية
الخيرات والمسارعة إلى الباقيات الصالحات فإن ذلك من المسابقة إلى الخيرات
ونية الطاعة طاعة يثاب عليها المؤمن يا عباد الله ،ففي الصحيحين من حديث
عبدالله بن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله كتب
الحسنات والسيئات ثم بين ذلك. فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تبارك
وتعالى عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى
سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة
كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة). مختصر من خطبة الشيخ
خالد المصلح.
[/size]